هل المثقف هو من يحضر المسرحيات العالمية وحفلات الأوبرا وعروض الباليه وتزدحم مكتبته بعشرات الآلاف من الكتب؟ هل هو الذى يحفظ ألف بيت من الشعر ويجيد أربع لغات.. وفقط؟

هل هذه كل مؤهلات المثقف الحقيقى؟ من هو المثقف الذى يترك بصمة التغيير على خريطة الوطن؟ للإجابة عن سؤال من هو المثقف سأعود إلى المفكر التونسى الكبير العفيف الأخضر، الذى حدد الصفات التالية للمثقف وهى:

■ من يساهم فى تحضير الأذهان، للتكيّف مع متطلبات وضرورات عصره.

■ من يدعو إلى إلغاء المواطنة السالبة المحرومة من حقوقها العامة، وإقامة المواطنة الموجبة الداعية إلى تحويل جميع المواطنين، بغض النظر عن ديانتهم وعرقهم وطائفتهم إلى مواطنين لا رعايا.

■ من يتمتع بالشجاعة والجرأة الفكرية والسياسية الكافية، لطرح الأسئلة على المشاكل الحقيقية، التى يعانى منها مجتمعه، والتعرّف على الانسدادات المزمنة التى تشلّ الفكر، وتُغيّب العقل،

وتُسبب العُقم فى المواهب، وتطرد الأدمغة المفكرة خارج حلبة الأوطان.

■ من يقوم بإنتاج الفكر النقدى، الذى يساعد على الانتقال من القطعى إلى المُبرهن عليه، ومن المُسلَّم به إلى المُتناقش فيه، ومن القراءة العابرة للتاريخ إلى القراءة التاريخية للنص، لجعله فى متناول العقل، ومتكيفاً مع متطلبات الحياة الاجتماعية.

■ من يتبنى القطيعة الجارحة مع التراث، فالحضارة الحديثة ابنة لثلاثة جروح نرجسية: اكتشاف جاليليو لكروية الأرض، وداروين لنظرية التطور، وفرويد للاشعور، وهكذا لم تعد الأرض مركز الكون، ولا الإنسان مركز الكائنات، ولا العقل سيد بيته.

■ من يُنشِّط ذكاء قارئه، لا أن يخدره بمدح أوهامه عن نفسه، وهذه مهمة نقدية أولاً، تفرض على الكاتب أن يجدد دوماً، ومهمة المثقف الاصطدام دوماً بالأحكام المسبقة، وبالأخطاء الشائعة، وبمصالح النخب الحاكمة والأصولية.

■ هو مثقف غير شعبى فى الفضاء العربى والإسلامى، لأنه ليس ديماجوجياً، ولا يتملق جمهوره، ولا يسمعه ما يريد أن يسمع، ولكنه يسمعه ما يجب أن يسمع.

■ هو الذى يقوم بكسر المحرمات التى يحكم بها الأموات الأحياء، لأن المثقف، تعريفاً، هو مع الحداثة، ومع العقل ضد النقل، ومع التجديد ضد التقليد، ومع حرية المرأة ضد استعبادها.

انتهى تعريف العفيف الأخضر للمثقف، ولكن لن ينتهى الجدل حول دور هذا المثقف، هل هو تدليل من يقرأ، أو يستمع له بأن يتماشى مع السائد ويساير أفكاره النمطية المتوارثة التى ولد فى كنفها وتبناها طيلة حياته، لا لسبب إلا لأن الأغلبية تؤمن بها،

هل هو تحضير وسائد من ريش النعام أو وسائد من مسامير القلق لكى يحثه على الفكر والتغيير؟ المثقف الحقيقى لا يبحث عن صنم الجماهيرية، ولا تخدعه كلمة براقة مثل أنه تعبير عن ضمير الأمة،

فمن الممكن جداً وفى فترة تاريخية مظلمة أن يزيف هذا الضمير ويغيب، ويصبح المثقف مجرماً إذا ضحكوا عليه وجعلوه بوقاً لهذا الضمير.

المثقف الحقيقى لا ينافق ضجيج الشارع، بل لابد أن يكون همه الوحيد الصدق والحقيقة حتى ولو دفع الثمن حياته.